زهير كاظم عبود
تشكل منزلة الكوجك الدينية مكانة متميزة في الديانة الأيزيدية ، بالنظر لتبوء هذا المركز من رجال تميزوا بالزهد والتقشف والصوم الطويل في الشتاء القارص وفي حر الصيف اللاهب ، وترك مباهج الحياة وملذاتها ، وبالالتزام الديني الصارم ، وتميزوا ايضا بقدرتهم على معرفة خطوط المستقبل وحدس احداثه ومعرفة عالم الغيب واخبار الموتى .
والكواجك جمع ( كوجك ) يشكلون طبقة من الطبقات الدينية التي تتشكل منها المراتب الدينية عند الايزيدية ، ولهم لباسهم الخاص الذي يميزهم ، وهم وان كانوا من المريدين الا ان وظيفتهم كما يبدو تعتمد على فراستهم وقراءتهم للماضي والمستقبل وتأخذ شكل الطابع الروحي ، ومن يتابع حركة الكواجك عند الأيزيدية يلاحظ ان الدرجة الدينية تلتصق بالاسم ، ولم يكن احدا يتسمى باسم ( كوجك ) انما هو صفة لصيقة بالاسم .
وجاء في ( صحاح اللغة ) بأن الكوجك رجلٌ قوشٌ أي صغير الجثة، وهو معرَّب وبالفارسية كوجك ، وقد تعني بالتركية الصغير ضمن المقامات والمصطلحات الموسيقية .
وذكر ابن الأثير في الكامل في التاريخ عن حوادث عام 539 حادثة قتل نصير الدين جقر وولاية زين الدين علي ( كوجك قلعة الموصل ) ، والمتمعن في مهنة زين الدين علي يدرك ان لا مهمة للكوجك في غير الديانة الأيزيدية ، وباقتضاب شديد لا نتعرف على مهمة وديانة الرجل ، ولا عن علاقة الكوجك بقلعة الموصل التي سجلها ابن الأثير في حوادث العام المذكور ، ومن يدقق اكثر في السرد التاريخي يجد العديد من هذه الحوادث والأسماء التي لها علاقة بالديانة والمجتمع الأيزيدي لا يذكرها المؤرخون ولايمر عليها كتاب التاريخ .
كنت في زيارة شخصية لمجمع بغداد الثقافي الذي افتتح حديثا في نهاية شارع المتنبي من جهة نهر دجلة ، متخذا من بناية المحاكم في القشلة مقرا له ، بعد ترميمه وتهيئته ليكون متناسبا مع المهمة ، حيث خصصت قاعات للشعر والموسيقى والغناء البغدادي ومحاضرات عن الفن وغيرها من الفعاليات الجميلة ، وخلال تلك الزيارة دخلت الى القاعة التي تضم بعض من تاريخ الدولة العثمانية في بغداد ، ووجدت لوحة معلقة تضم اسماء الولاة العثمانيين ، من ضمن تلك الأسماء ورد أسم الكوجك حسن باشا ، والكوجك موسى باشا ، وتوقفت مليا امام هذين الاسمين ، وعدت الى بعض المصادر التاريخية حيث وجدت ، أن ( نيبور ) قد ذكر في مذكرته المسماة (( رحلة نيبور إلى العراق )) حوالي ثمانية وأربعين اسماً من الولاة الأتراك في الدولة العثمانية الذي نصبوا من قبل الحكومة العثمانية على بغداد وأول هؤلاء الولاة كان (كوجك حسن باشا) (1048- 1049هـ) وآخرهم كان عمر باشا (1178هـ).
الفترة الثانية للحقبة العثمانية في تاريخ بغداد، كانت من عام 1638 إلى عام 1917 سنة دخول الإنكليز الى بغداد ، وأول والٍ لهذه الفترة كان كوجك حسن باشا من 1638 إلى 1639 وانتهت عند الوالي خليل بك من 1916 إلى 1917.
عدد الولاة العثمانيين الذين تولوا امور بغداد والعراق كان بحدود (133) والياً ابتداءاً من اول والي لها (سليمان باشا) سنة/1536م حتى ولاية (بكر صوباشي) سنة/1622م كمرحلة ضمت (32)والياً، فيما ضمت المرحلة الثانية (101) والياً ابتدأت من ولاية (كوجك حسن باشا) سنة /1629م وانتهت بولاية (ممدوح بيك) سنة/1917، وهي نفس السنة التي دخلت فيها جيوش بريطانيا الى بغداد بقيادة الجنرال (ستانلي مود) في 11/آذار 1917، حيث تقهقرت القوات التركية بالانسحاب صعداً إلى الموصل وبهذا سقط حكم الاتراك للعراق.
إن كوجك حسن باشا حكم للفترة من 1049 – 1048 هـ 1638 – 1639 م ) كما عاد للحكم مرة ثانية للفترة من 1054 – 1055 هـ ( 1642 – 1644 م ) ، اما الكوجك موسى باشا فقد حكم للفترة من 1056 – 1055 هـ ( 1645 – 1646 م )
ومن الجدير بالذكر أن هناك من الكواجك ما ذكره التاريخ الحديث بشي ء من الأنصاف عنهم ، فميرزا كوجك خان (1880-1921) هو ثائر إيراني قام ضد الحكومة القاجارية وملكها أحمد ميرزا شاه قاجار وهو آخر ملوك القاجار.
وكانت ثورته ضد الحكومة بسبب وجود القوى الاجنبية روسيا(شمالا) وإنجلترا(جنوبا) وقيامه يعتبر أول قيام مسلح في إيران.
وشكل ميرزا كوجك خان جيشا في غابات جيلان (محافظة شمال إيران) وقاوم مع مجموعته المسلحة لعدة سنين في الغابات ، وقد تلاشى جيشه بمرور الزمان حيث انسحب عنه المقاتلين حتى بقي وحيداً، لكنه لم ينثني او يستسلم ، وبقي في الجبال وسط الشتاء القارس، وقد مات من البرد سنة 1921 في وسط جبال البرز ووجدوا جثته مجمدة. في وسط الثلج ، وقام أحد اصدقائه ومناصريه القدامى بقطع رأسه بعد موته ليحصل على جائزة لمن يأتي برأسه.
نحن نعلم ان الولاة العثمانيون كانوا من المسلمين ، وكان العديد منهم ممن اعتنق الاسلام حديثا من دول البلقان واليونان المجاورة لمركز الامبراطورية العثمانية ، وكان الباب العالي هو من يصدر الفرمانات بتعيين هؤلاء الولاة ، غير انه يدقق في مسالتين اساسيتين ، وهو الانتماء الديني للشخص والاخلاص للسلطان ، ومن الجدير بالذكر ان الايزيديين تعرضوا لحملات القتل والابادة على يد سلاطين وقادة الدولة العثمانية بشكل بشع ، بل ان اكثر الفتاوى والفرمانات التي هدرت دماؤهم واستباحت اموالهم وأبادتهم جسديا ودمرت قرآهم صدرت من وعاظ السلاطين العثمانيون .
ولم نجد بين هؤلاء الولاة من يعتنق غير الاسلام دينا ، ولنا في حادثة ايزيدي ميرزا المنصوب تمثاله في بلدة بعشيقة لتخليده مثالا ، فإيزيدي ميرزا باشا تولى ولاية الموصل للفترة ( 1650 ـ 1651 ميلادية ) ( 1059-1060 هـ ) في زمن السلطان العثماني مراد الرابع الذي أمر بترقيته من رتبة فارس الى رتبة قائد فرسان ضمن الجيش العثماني ليتولى ولاية الموصل بعد الدور البطولي الذي أبداه في معركة فتح بغداد ( سنة 1638 ميلادية 1047 – هـ ) ، فقد ابلى المذكور بلاءا حسناً في فتح بغداد في العام 1638 م حيث تميز باندفاعه وقتالــه وشجاعته بحيث استحق ذلك التكريم بجدارة ، وحين علم الوالي العثماني بحقيقة ديانة ايزيدي ميرزا ارسل بطلبه ، وعرض عليه ان يعتنق الاسلام ويغير ديانته على ان يمنحه الرتب والعطايا فأبى وأصر على البقاء في ديانته ، فقتله نتيجة لذلك .
ومن جانب آخر فقد شكل ( آل مندي ) ولاية لهم في منطقة حلب (امارة كلس في حلب كما يقول الباحث صباح كنجي ) ، كما تشكلت ولاية على ضفاف نهر البهتان باسم ولاية قلب ويطمان ، كما في منطقة اربل وجبال الصوران حيث أمر السلطان سليمان القانوني أن يتم تفويض ثلاث أمارات لشخص أيزيدي ، كما في الموصل حيث ولي أيزيدي ميرزا باشا ولاية الموصل وهو ابن بعشيقة ليحكمها بما عرف عنه من شجاعة وحكمة ونفوذ .
لندقق معا عن الكوجك حسن باشا المغيب تاريخيا ، والذي حكم ولاية بغداد للفترة من 1638 إلى 1639 ، ولندقق ايضا عن الاسباب التي حجبت البحث عن تلك الفترات التي حكم بها وأصوله الدينية والقومية ، وندعو كل المهتمين بالحقيقة والتاريخ ان يتم البحث عن حقيقة حكم العراق في فترات من زمن الدولة العثمانية من قبل ابناء الأيزيديين الذين غبنهم التاريخ وحجبت حقائق كثيرة من تاريخهم ، وشطبت من تاريخ العراق لأسباب لم تعد خافية على احد ، وبهذه الدعوة يتوجب على الباحثين ان يجعلوا الحقيقة قاعدة في البحث حتى يمكن قراءة حوادث التاريخ بشكل حيادي ومجرد ومنصف وقريب جدا من الحقيقة والواقع .
تُتاح هذه الصورة أيضا في: العربية