عيسى: عائد إلى حضنك أمي/ قصة قصيرة
ريام الشمري
منذ رحيلك ياامي وأنا أصارع الحياة بكل ما أوتيت من قوة, وكلما وضعت راسي على الوسادة لأستريح من تعب النهار يأتيني رسم وجهك نصب عيني ورذاذ عطرك يملئ المكان, أتنفسه قبل أن تأوي روحي إلى المنام وأتخيل حضنك وسادةً، فيقوم الحلم محملاً لي محياك، وكأنه يخبر فؤادي المشتاق بأن روحك مازالت متشبثةً هنا، وان ملامح وجهك تتوقد كل يوم لتضيء دروب وجداني المليئة بشذا رحيلك وان الهروب من ذكرياتك محالا ورجوعك أصبح ضربا من الجنون .
بعدها استيقظ في الصباح على ذكرياتك ورائحتك، ارتدي ملابسي واخرج لأبحث عنك في كل الوجوه، كنت أطيل النظر في الماره لعل عابر يشبهك, ما بالك ياامي تشدين علي أزار شوقي وتدخلين إلى ألم الذكريات كلما ذهبت إلى عملي أو إي مكان التجأ اليه هرباً من واقعي المرير، وبقيت على هذه الشاكلة إلى أن كبر فلذة كبدك على أحزان الوجود.
كنت أرفع كلتا يداي وادعوا الرب الجليل أن أراك يوما ما وكلي أمل إن تحلق روحي إليك لترافقك وتتوسد بين أحضانك، لأحدق إلى عينيك وأنا أتحدث إليك كل لحضه قبل أن أعود إلى رشدي وحقيقة وجودي بعيد عنك.
ياامي في خضم تفاصيل الوجود شعرت بحزن عميق يعتصرني فناديتك في ذلك المساء بأن ترشديني إلى نور وجهك الذي لطالما أضاء ظلمة ليلي الموحش، التي تشاركها ذكريات معتمة أعتدت عليها كلما طرق باب قلبي الشوق إلى ينابيع حنينك الذي تركني، وأنا كلي أمل بأن تنبت على أراضي قلبي أشجار قربك من جديد.
في إحدى ليالي بغداد الجميلة مع أواخر أيام شهر رمضان المبارك حيث كانت الأجواء تسيطر عليها الفرح والابتهاج لقدوم عيد الفطر المبارك كان مكان عملي ينبض بالحياة بخلاف حياتي، والشوارع مكتظة بالعوائل ومليئة بلعب الأطفال كان الناس في كل مكان، ساهرة على وجبة السحر، وشراء الملابس ومستلزمات العيد وعند الساعة الواحدة ليلا كنت جالساً في مجمع الليث التجاري، مقر عملي مع أصدقائي نمزح ونتحاور وإذا بصوت رهيب لم أسمعه من قبل قد مزق أذني شعرت بإغماء وبشلل لازمني لدقائق، ثم أحسست بأحد يهز بجسدي ويحاول أن يساعدني على النهوض فتحت عيني رأيت صديقي وهو في حالة رعب يخبرني بأن هناك نيران التهمت المكان ويجب أن نتحرك بسرعة للخروج منها، ركضت أنا وزملائي ومن كان معنا نحو الباب الرئيسي لكن النيران كانت قد سحقت كل من وقف أمامها، وان الأوان قد فات، هربنا إلى غرفة تضّج بالعتمة والأصوات العالية التي تناجي الله من هذه النيران كأنها حرب نشبت في داخل وخارج الغرفة , وجموع غفيرة تعج بالصراخ والأنين والبكاء، وبلمح البصر دخلت النيران للغرفة حاولنا فتح الباب للهروب لكنها كانت موصدة بإحكام كما النوافذ، بعدها عرفت أن لا جدوى من الهروب من الأمر المحتوم، مسحت عن وجهي مساحيق الحياة، وانطويت على نفسي معانقا كل أمالي المنكسرة وأشيائي الحزينة وقصائد وحدتي ووحشتي بفراقك ياامي، عانقت مشاعري وعصافير شبابي حملتها حاضناً إياها كي لا يفلت من يدي شيء، وان لا تتقرب النيران اليها، حتى أنني أصبحت أرى شريط حياتي يمر أمامي وكأني أشاهد فلم هوليودي، هنا أيقنت بأن حياتي تلفظ أنفاسها الأخيرة وتحتضر ببطء، رفعت كلتا يدأي لأدفع عن وجهي النيران المتصاعدة التي لحقت بجميع معالمي ومعابدي لكن دون جدوى, بعدها رأيت طائر بجناحين يتدلى من سقف الغرفة يتفرج، يرفرف بجناحية كأنه يهوي لنا ليحضننا ثم اقترب مني مبتسماً فمسك روحي بجناحيه ورفعها إلى فوق محلقةً لبارئها تناجيه للقاء الأحبة .
ياامي: وأنا أشاهد جسدي يحترق باللهب الأحمر وعيوني الخضراوات التي كنت تتغزلين بهما قد ذابت وها هو جسدي قد تفحم، شاهدت أصدقائي وهم يذوبون كالشموع، حاولنا مساعدة بعضنا البعض وان نمد يد العون لضعيفنا، لكن الفشل كان حليفنا، وبعد بزوغ الفجر بقيت أعمدة الدخان تتصاعد من الأبنية، وروحي تلف أروقة المكان باحثة عن جسدي، في كل ركن من أركان المكان، وجدت نفسي مع صحبتي جثث متفحمة لم يتم التعرف على هويتي، مشاهد مؤلمة لعشرات من النساء والرجال وهم يبحثون عن أبنائهم وسط الركام دون جدوى.
سبعة مبانٍ من كرادتي الجميلة قد احترقت بكل ما فيها من أشياء وبشر، لعمري يتكرر مثل هكذا جحيم بين فينة وأخرى ليرى فجائع تذهل لها العقول وتقشعر لها الأبدان وترتجف لها الروح .
ورغم الألم الذي مررت به، ورغم الاختناق الذي ألم بي وأنا أنازع نيران ودخان الحريق لكن سعيد يا أمي أنني ألان أعود إلى حضنك من جديد بعد فراق تمنت أن ينتهي ويلتم شملنا كما كان وها هو يتحقق ياامي، وها أنا قادم إليك بحنيني وشوقي وكل جوارحي ومشاعري.
تُتاح هذه الصورة أيضا في: العربية